اعتادت مجتمعاتُنا الناميةُ في بعضِ نُظُمِها وأنسجتِها اللهثَ وراءَ أرديةِ الصَّرعاتِ، والْحَملقةَ في أفضيتها، والتمرُّغ يمنةً ويُسرةً في أفنيتها…، فإن لَحِقتْ بذيلِ هذا الرداء، أو تخيَّلت لَها سبحًا في موجِ ذاكَ الفضاء…انْتشتْ وعَلَت، وظنَّت أنَّها ملكَت مفاتِحَ الخيرِ ومغاليق الشر…ورأت في كيانِها عظمةً تُخوِّل لها منافسةَ الحضاراتِ بل وامتطاءَها؛ لتتشدَّق بعد ذلك بألوانِ تعبيراتِها وخيوطِ كَلِمِها وجُمَلِها المفرَّغة منْ ثوابتِ معانيها، وروائعِ انطلاقاتِها، ولتتفاجأَ بعد زمنٍ يطولُ أو يقصُر بأنَّ ما تشدَّقت به ولَهثت وراءه ما هو إلا فُقاعاتُ غُسلٍ، وأمانيُّ بُطْل، وأنَّها مازالت تتلاطمُ في الأقبيةِ دونَ الأفنيةِ.
وما النظامُ التربويُّ في عالمنا العربيِّ القريبِ منَّا أو المحيطِ بنا -إنْ جازَ لي التعبير- ببعيدٍ عن هذه الصرعاتِ ذاتِ الألوانِ الفاقعةِ، والأشكالِ الْمُتباينةِ، والأشلاءِ المتطايرةِ، التي حاول مصمِّموها أو مؤيِّدوها الترويجَ لكلِّ لونٍ منها على حِدة، والتسويقَ لكلِّ شكلٍ وشلوٍ منها بمنأًى عن الآخر؛ ليأتيَ الانسجامُ منعدمًا بين فاقعِ ألوانِها؛ وليزدادَ تناثرُ أجزائِها، وتنافرُ أشكالِها؛ فَيُصاب مُرتَدُوها بِعشًى يُعَسِّر عليهم تمييز جيِّدِ اللونِ من رديئِه…ويتخبَّط مُقتنوها في لَمْلمةِ شَمْلِ ما تبعثرَ منها، ورَتْقِ ما تمزَّق فيها، فتأتي النتاجاتُ مُرقَّعةً مرقَّطةً يتذمَّرُ منها المتلقُّونَ، و لا يجدونَ فيها بُغيتَهم، ولا تنسجمُ مع تطلُّعاتِهم.
ويبدأُ اللوم والتراشقُ بين مُتَلَقٍّ مُتَلَهِّفٍ لنتاجٍ راقٍ، وبين نظامٍ يصارع حينًا ويَجْمُدُ أحيانًا منشدهًا لاتهام المتلقي إيَّاهُ بالعجزِ عنِ الوفاء بآماله وحاجاته، أو متعجِّبًا –غالبًا- من انتفاءِ قدرتِه على كسبِ رضاه، وهوَ الذي يتفنَّنُ في استيرادِ الصَّرعاتِ، ويَجتهدُ في تدشينِ المشروعاتِ…ويصوغ الفِقَر، ويسوقُ الفِكَر؛ لعلَّه يفي بالطموحاتِ أو يُسدِّدُ ويقاربُ بين الحاجاتِ والتطلُّعاتِ.
وتستمرُّ الْحلقةُ وتدورُ رحاها بينَ مُورِّدٍ مُتَّهَمٍ… وبينَ عميلٍ قليل الحيلةِ يلجأُ لاستيرادٍ خارجيٍّ قد يسدُّ به رمَق حاجاتِه، أو يتوكَّأُ عليه في حصدِ إنجازاتِه…وهو في ذلك خائفٌ يترقَّبُ من قوانينَ داخليَّة يُلوَّحُ بِها في وجههِ، وبين جَشِعٍ خارجيٍّ يُبالغُ في تثمينِ صادراتِه…وبين كلا الأمرين وفي أثنائهما تراهُ يفتِّشُ وينقِّب عن نتاجٍ داخلي يُغنيه، أو تتحقَّقُ على يديهِ بعضِ أمانيه.
فهلْ مِنْ سبيل؟ أمْ أنَّ السُبلَ عجَّت بِكُبرى المصطلحاتِ المستوردة التي فُرِّغتْ منْ مضمونِها، أو صُبَّت في غير أوعيتِها، أو ضاقَ مُطبِّقوها ذرعًا بها؛ فعادوا إلى سابقِ عهدهم، وديدن أمرهم، متمسِّكين بالاسمِ دونَ الْجسمِ، وبالمصطلحِ دون المفهوم…مع إخضاعهم إياه لِمُمارساتِهم التقليديَّة، ومنهجيَّاتِهم البالية.
ولعلَّ الأمرَ لا يقتصرُ على استيرادِ كُبرى الْمُصطلحات، بل يتجاوزُه إلى تبنِّي هشيمِ النظريَّات التي عجِزَ مُنظِّروها في أصولِ ديارِها عنِ الإلْمامِ بأطرافِها، أو تقاصَرت أحلامُ بعضِهم عن رصْفِ تطبيقاتِها ونَظمِ ممارساتِها؛ لِيُضافَ إليها في منظومةِ المناهجِ المعمولِ بِها في النظامِ التربويِّ ذي الصرعات، أنَّ بعضَ عناصرِ مناهِجِه لا تنسجِمُ في أساسِ بنائها مع تلك النظريات والمقاربات، أو أنَّ من سيقومُ عليها يعوزُه تلمُّسٌ قريبٌ لواقعه المحتاج، ورصدٌ حقيقٌ لقدراته؛ ليتدرَّبَ ويتأهَّلَ، وَيُمَلَّكَ الْمقَوِّماتُ، وتُمهَّدَ له المسبِّباتُ التي تُحقِّق التوقُّعات لِكُلٍّ منَ المورِّدِ والعميلِ معًا.
وبين كُبرى المصطلحاتِ وهشيمِ الْمُقارباتِ، تُضخُّ المعرفةُ ضخًّا، وتندلقُ المعلوماتُ في أوعيةٍ ورقيَّةٍ يعجَز حامِلوها عن حملِها، وتئنُّ عقولُهم من خزنِها، وتتبعثرُ هممهم عنْ وعيها؛ فتتراخى مهاراتُهم، وتتضاءلُ قدراتُهم، ويضمحلُّ تفكيرهم، وقد تتوارى قيمُهم…فيضيقُ مجتمعُهم بِهم.
ولا سبيلَ إلى عَذْلِهِم! فما يصنعون بِمعرفةٍ لا يُجيدون إدارتَها وإنْ جَلَّت؟ وما الذي يَجْنونه من علومٍ نظريَّةٍ لا يَختبرونَها في قريبِ ساعاتِهم ومستقبل حياتِهم؟ وما الذي يُحصِّلونه من سلالِمِ درجاتٍ بلغوا مُنتهاها أو توقَّفوا عند أدناها… وهي لم تُسخَّر لتقويمِ تعليمِهم وتحسينِ تعلُّمِهم؟ وما نفعُ التقانَةِ بِعُدَّتِها وعَتادِها إنْ اكتفَوا بقشورها، واتَّخذوها وسيلةً للترفيه وقطعِ حياةِ أوقاتِهم، ولم يتمثَّلوا قيم استثمارها ويتقنوا مهاراتِها وينضبطوا وفق مبادئها؟ وما أهميَّةُ كلِّ ما يُبصَّرونَه و يُلقَّنونَه إنْ لَم تُسيِّجْهُ القيمُ الغالية، والثوابتُ الراسخة؛ حتى لا يتسَّع الرقعُ ويعْمُقُ الفتقُ، ولتنموَ شخصياتُهم بتوازنٍ يخدمهم، ويفيدُ منهم مجتمعهم، ويُحقِّقون بذلك أمرَ ربِّهم في خلافةِ الأرضِ وعمارتِها؛ فيضمنوا لهم مستقبلاً مكينًا عزيزًا، وآخرة ناعمةً راضيةً بإذن ربهم.
والسبيلُ إلى ذلك سهلٌ يسيرٌ… فبُعدًا لتقلُّباتٍ غيرِ واعيةِ تصطدمُ بها هِمَمُهم، ولا لِحراكاتٍ غيرِ متأنيَّةٍ تئنُّ على إثرها عزائِمُهم، ومرحًى بكلِّ رأيٍ رشيدٍ سديد، وجهدٍ متضافرٍ أكيد…لكيلا تكون صرعة.