د. أحمد هجوان
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وبعد: فإن الإسلام أول من نادى بطلب العلم وحث على البحث والاختراع والاكتشاف والنظر في ملكوت السماوات والأرض، وحسبك أن أول أية نزلت: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِى خَلَقَ) ورويت كثير من الأحاديث في وجوب طلب العلم والترغيب فيه، وصنفت في هذه المسألة كثير من المصنفات القديمة والحديثة للشوكاني وابن الأمير والبيحاني والقرضاوي وأبي غدة والمحاسبي وابن عبدالبر وغيرهم، ذلكم السر في أن حضارة الإسلام هي صاحبة السبق والفضل في كل المجالات كالطب والبيطرة والصيدلة والتشريح والطبيعة والهندسة والرياضيات والكيمياء وعلوم الفلك والزراعة والجيولوجيا والاقتصاد والسياسة وغيرها. غير أن جُلَّ أسماء تلك المواد والعلوم تختلف في عصرنا عن أسمائها العربية القديمة، فقد حولها الأوربيون إلى لغتهم بعد تفوقهم فيها وإهمالنا لها، ولكل ما أمر به الشارع ـ جل شأنه ـ فعلم الميكانيكا كان يسمي بعلم الحيل، وعلم الجغرافيا كان يسمى بتقويم البلدان، وعلم الاجتماع كان يسمي بالعمرانيات، وعلم الجيولوجيا كان يسمي بعلم الصخور وطبقات الأرض، وكان اسم علم الفيزياء علم الطبيعة، وجملة هذه العلوم كانت تسمى بالعلوم الحكيمة، وإن كنا قد تفوّقنا في كل تلك العلوم فإن الشيء من معدنه لا يستغرب، وليس أدل على تفوقنا في العلوم والصناعة سابقًا من أن هارون الرشيد أهدى لشارلمان ـ ملك فرنسا ونصف أوربا ـ ساعة مائية من صناعة المسلمين والتي سَبَتْ عقولَ الغرب حتى ظنوها سحرًا.
وتفوق المسلمون في صناعة مرآة النجم (الأسطر لاب باليونانية) وهو جهاز يستطيع الفلكي أن يعين به زوايا ارتفاع الأجرام السماوية عن الأفق في أي مكان، وكان أبو إسحاق الفزاري من فلكيي الخليفة العباسي المنصور ـ هو أول صانع لذلك المرصد الفلكي في الإسلام، ففي كتاب (الإسلام والعلم الحديث)، قال عبدالرزاق نوفل: في القرن الأول وضع أبو إسحاق إبراهيم بن حبيب بن سليمان الفزاري كتابًا يوضّح فيه العمل بالأسطر لاب المسطع الذي كان أول من قام به، ومن البارزين في العلوم الحكيمة المسعودي المتوفى في 345هـ الذي كان أول من قال بكروية الأرض من أهل العلوم الحكيمة، وقال كذلك بدورانها حول الشمس؛ قال في كتابه مروج الذهب: (إن الشمس إذا غابت في أقصى الصين كان طلوعها على الجزائر العامرة في بحر أوقيانوس، وإذا غابت في الجزائر كان طلوعها في أقصى الصين وذلك نصف دائرة الأرض)، كذلك قال بكروية الأرض كثير من علماء الفلك المسلمين منهم محمد بن محمد الإدريسي المتوفى عام 548هـ، وقد رسم ما شاهد من البلدان على كرة من فضة وذلك عند زيارته لصقلية بدعوة من ملك النورمان، وفي كتابه نزهة المشتاق في اختراق الآفاق ـ أن الأرض مدورة كتدوير الكرة، وإن كان قد سبقه المفسر عبدالله بن عباس، وأول من عرف أن الأرض كوكب يسبح في الفضاء ابن الشاطر مؤذن جامع دمشق، وهو أول من قال إن دوران الأرض حول الشمس وحول نفسها يسبب تتابع الليل والنهار ثم الفصول الأربعة، وموسى بن شاكر أول من قام بتقدير حجم الأرض وتحديد قياس محيطها، وعلماء المسلمين أول من حددوا قطر الأرض، وصححوا أخطاء بطليموس ونظرياته الفلكية؛ حيث قال بطليموس: إن الأرض مركز الكون، وقال علماؤنا بل الشمس مركز الكون، وكان أولهم البيروني، وأول مصور جغرافي هو محمد بن موسى الخوارزمي فقد صور أقاليم الدول الإسلامية في كتابه (صورة الأرض)، وكان أول قاموس جغرافي في التاريخ هو معجم البلدان لمؤلفه ياقوت الحموي المتوفى في القرن السابع الهجري، وما زالت قيمته العلمية محتفظ بها، وأول من قال بجاذبية الأرض هو الخازن قال: (إن الأجسام تقع على الأرض بسبب قوة جاذبة، وإن هناك علاقة بين السرعة والمسافة والثقل)، قال ذلك قبل مولد نيوتن بقرون، كما تحدث كثير من علماء المسلمين الأوائل عن قانون الجذب العام وربطه للأفلاك بعضها ببعض.
وعلماؤنا أول من قام بدراسة الصخور وطبيعتها وأسسوا هذا العلم، وذكر الشيخ الوقفي في كتابه (تلك حدود الله): إن علماء المسلمين هم أول من وضع قواعد الكهرباء التي بنى عليها كريرت مباحثه، وأول من اخترع بيت الإبرة (البوصلة)، وكانوا كذلك أول من صنع البندق بغرناطة، وأول من صنع البارود، وأول من اخترع الساعة ذات البندول والعجلة، وابن خلدون أول رائد في علم الاجتماع (العمرانيات)، وابن رشد الأندلسي أول من أثبت أن الجدري لا يصيب الإنسان مرتين، وآباؤنا أول من بنى البيمارستانات بصورة واسعة، واتخذوا الأطباء المتخصصين أيام الوليد بن عبدالملك الذي اعتنى ببناء المستشفيات وأجرى الأرزاق الغزيرة على الأطباء، وأمر بمنع المجذومين من سؤال الناس، ووضعوا في حجر صحي وأجريت أرزاقهم، وكان أول مستشفى في الإسلام هو الخيمة التي ضربها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالمدينة المنورة يوم الخندق، وجعل فيها امرأة تدعى رفيدة تقوم بخدمة المرضى وجراحاتهم، وابن سيناء أول من قال إن الرجل وليست المرأة سببًا في ذكورة الجنين، وأول من أسس الصيدليات علماؤنا، وأدخلوا كثيرًا من المواد الكيميائية في أدويتهم، على رأسهم ابن البيطار، وداود الأنطاكي، فقد وصفوا النباتات، ومقدار الجرعة، وموعد تناولها. والرازي أول من استخدم الزئبق في المراهم، وهو أول من استخدم الزئبق على القرود ونجحت التجربة، وعبداللطيف البغدادي هو أول من اكتشف أخطاء جالونيس في علم التشريح وصححها؛ فقد قال جالونيس إن الفك الأسفل يتكون من عظمتين، والزهراوي أول من ألّف في علم الجراحة، وابن زهر أول من استخرج حصى الكلية، وابن النفيس أول من اكتشف الدورة الدموية الصغرى في جسم الإنسان، وهو أول من وصف فتح القصبة الهوائية من علماء الطب ودوّنها في كتابه (التيسير في المداواة والتدبير)، والرازي أول من قال بأثر الوراثة في الأمراض وتوارثها، وهو أول من شخّص مرض الحصباء والجدري وفرق بينهما في أدوارهما الأولى، وهو أول من قال بالتجربة الضابطة؛ وهي أن يجري العلاج على نصف المرضى ويترك النصف الآخر، وأول من اكتشف خيوط الجراحة من معي الحيوانات، وأول من كتب في علم البيئة وأثرها في الكائنات الحية هو ابن خلدون، وكان الجاحظ هو أول من أسس علم التشريح المقارن؛ حيث كان يقوم ببقر بطون الحيوانات ويقارن بين أجهزتها المختلفة، وهو المؤسس الأول لعلم الحيوان التجريبي، وهو أول من درس سلوك الحيوان، أما الغرب فيعتبرون الجاحظ أول أستاذ في علم الحيوان، وعلماء المسلمين أول من اكتشف الضغط الجوي قبل النهضة الأوربية بقرون، وتناقلوا فيما بينهم قاعدة: (إن وزن الجسم في الهواء يقل عن وزنه الحقيقي)، و(إن للهواء قوة رافعة كالسوائل) حسب قاعدة أرشميدس، و(إن وزن الجسم في قرب سطح الأرض يختلف عن وزنه على ارتفاع معين حسب ارتفاع عمود الهواء فوقه)، وجابر بن حيان هو أول من قال بقانون الأوزان المتكافئة، وقد سماه علم الميزان، وهو أول من عرف أن النحاس يكسب اللهب لونًا أخضر، وابن سيناء أول من قال بالجنس (التلقيح) في النباتات، لعله استمدها من قوله تعالى: (وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ…) أثبت هذه الحقيقة قبل ميلاد لينس بقرون، وعباس بن فرناس الأندلسي المتوفى عام 274هـ أول من ابتكر فكرة الطيران، وهو فيزيائي، وكيميائي، وأديب، وطبيب، وقد اتخذه الأمويون طبيبًا خاصٌّا لمعالجة أبناء الأسرة الحاكمة، قال رحاب خضر عكاوى: وأول من أسس علم الطبيعة (الفيزياء) الحسن بن الهيثم، وهو أول من بحث مسألة انعكاس الضوء، وابن الهيثم أيضًا هو أول من فسر ظاهرة السراب، ورؤية الشمس قبل الشروق وبعد الغروب، وجابر بن حيان أول مؤسس لعلم الكيمياء الحديثة، فقد حضّر سبعين مادة كيميائية، وعرف خصائصها وتفاعلاتها من أحماض وكبريتات وكلوريدات، وهو أول من اخترع طرق البحث الكيميائي، وأول من وصف عمليات التذويب، وهو أول من وصف عمليات الترشيح والتبلور، وأول من قام بعلميات التقطير ووصفها، وكذلك وصف عمليات التصعيد ولم يسبقه إليه أحد، والخوارزمي أول من اخترع علامة الصفر الذي مكّن الرياضيين من حل المعادلات الطويلة. وأول من اكتشف العلاقة بين الجبر والهندسة، واستخدام المعادلات الجبرية في حل المسائل الهندسية، وهو أول واضع للأسس التحليلية الهندسية، وموسى بن شاكر أول من ألّف في علم الحيل (الميكانيكا)، وعلماء المسلمين أول من استنبط المنهج التجريبي من قوله تعالى: (وَفِى أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) ومن قوله: (أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَآءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ)، واعترف الغرب أن المسلمين هم الذين ابتكروا المنهج التجريبي، وقال جابر بن حيان: (عليك بالتجربة يا بنيّ)، والمقصود النظر والتفكر والتأمل والتدبر وإجراء التجارب المختلفة للتوصل إلى الحقيقة، وهو أول من أوصى بإعادة التجربة ثلاث مرات للتأكد من صحتها، وأبو موسى الكندي هو أول مفكر إسلامي يخرج على التصنيف اليوناني التقليدي، فقد اخترع تخطيطًا عامٌّا جديدًا كي تصنف العلوم على أساسه، وكان ذلك التصنيف أساسًا حَذَا حَذْوَه من جاء بعده كالفارابي والخوارزمي وابن سيناء مع شيء من التعديل، والبلاذري أول من ألّف على منهج ربط الحوادث بصورة متماسكة في التاريخ، وعلماؤنا هم أول من أحسن الإفادة من علوم الآخرين، فهم أحق بمعرفة الحقائق، فقد قاموا بنقل علوم غيرهم، فهم أول من نقل علوم الكيمياء إلى العربية، وعلى رأسهم خالد بن يزيد بن معاوية؛ وهو أول من نقل علوم الطب إلى لغة العرب، وأول مترجم لكتاب العناصر الأقليدس هو الحجاج بن يوسف بن مطر الذي ذاع اسمه بين سنتي 786 ـ 803هـ، وقاموا بحركة واسعة في الترجمة ابتداءً بترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغة السندية، وتصدير علومنا إلى الآخرين، وكذلك استيراد النافع من علوم غيرنا، وتدوين الدواوين وتعريبها بعد أن كانت تكتب باليونانية والفارسية والقبطية، والمسلمون أول من نظم البريد، وعلى رأسهم الخليفة عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ وأنشأ المسلمون أول مجمع علمي في العالم ببغداد (دار الحكمة)، ومن المرجح أن المؤسس الأول له هو هارون الرشيد ـ وإن كان قد ازدهر في عهد المأمون، واشتهر العصر العباسي الأول بأنه عصر التصنيف، وأول من صنف هو عبدالملك بن عبدالعزيز بن جريح البصري 155هـ، وقيل أبو النصر سعيد بن عروبة 155هـ، وقيل ربيع بن مسعود 160هـ، وأنشأ المسلمون أول جامعة في الإسلام، وأول من وضع لبنتها أبو موسى الأشعري في السنة الثامنة من الهجرة في زبيد بتهامة، أما علوم التربية فقد برع المسلمون فيها، واهتموا بتربية الجسم والعقل والروح، بخلاف النصرانية التي أهملت جانبي العقل والجسم واهتمت بالروح فقط، واليهودية التي اهتمت بالجسم وأهملت العقل والروح، أو اليونان الذين أهملوا الجانب الروحي واهتموا بالعقل والجسم، وقالوا: (العقل الصحيح في الجسم الصحيح) وأشهر علمائنا في هذا المجال ذكروا في أول هذا البحث، والحمد لله رب العالمين.
المراجع:
الإسلام والعلم الحديث، عبدالرزاق نوفل ـ القاهرة.
الرسول المعلم، عبدالفتاح أبو غدة ـ جدة.
تلك حدود الله، إبراهيم الوقفي ـ القاهرة 1976م.
عباقرة الإسلام ج4، رحاب خضر عكاوي 1994م.
الرسول والعلم، د. يوسف القرضاوي ـ القاهرة 19
وشكرا لاهتمامكم